من حقب الزمن.. في بيداء خالية، لُحفت بالثلج الأبيض.. يعم الهدوء عليها.. لم يكن هناك إلا مسكن خشبي صغير.. احتشد حوله ناس صامتين.. يرمقونه بنظرات حديث طويل.. يرفعون رايات نارية، أحاطوا بشاب ملقى على الأرض.. بجانبه جثة كلب.. وعليهما رجل آخر يبكي!..
روي أن الشاب.. كان يعيش في مدينة، يسودها الخير، غرق في معاصيه.. يسرق.. يقتل.. يشرب الخمرة.. يرتكب الفاحشة، أسوَد وجهه، قلت هيبته.. أنطوى وحيداً منعزلاً، اغترف قلبه من الشر.. يخالط الحقد دمه الساري في عروقه.
في ليلة.. تحت ستار الظلام.. وبصيص القمر، تخطى سور منزل، قاصداً سرقته..! احتل ظلام الليل على جو المنزل، يخطو الشاب خطوات خامدة، كأن بريق عيناه تغلغلت بوسط الدجى، ليرى شيخاً اعتلت عمامته رأسه.. ينحني لسجوده، أراد الشاب أن يصيب هذه اللحظة.. ليقتله، برهة من الوقت..! طعن الشيخ بخنجره.. سالت الدماء، تحول الهدوء إلى عاصفة هوجاء من صراخ ذلك الشيخ.. فهوى جثة هامدة، خشي الشاب من هذا العجيج، أسرع ليولي هارباً، رآه قوم من أهل المدينة، أدرك الآن وهو يهرول.. أنه يجب عليه الفرار من المدينة..! طارده القوم ليقتصوا منه.. إبتعد عن المدينة.. وصل البيداء، فرأى المسكن الخشبي.. إختبأ بصخرة لا تبعد كثيراً عن ذلك المسكن، خال له الآن أن القوم قد افتقدوه.
بنظراته الحادة.. كان يرى بجانب المسكن كلباً.. يحمي المنزل، خرج صاحب المنزل قاصداً على ما يبدو.. الاحتطاب.. بعد فترة..! عاصفة ثلجية تقبل على ذلك المكان شيئاً فشيئاً، ازداد البرد اللاسع.. أوراق الشجر صفراء.. تتلاعب فيها الريح بسرعة.. وقوة شديدتين، لازال الشاب يراقب.. والكلب يعدو أمام الباب الخشبي.. يعود من بعيد صاحب المنزل.. حاملاً الحطب.. متلثماً خشية العاصفة الباردة.. انقض الكلب عليه مهاجماً.. لم يدرك بأن صاحب هذا اللثام هو صاحبه.. ظل يهجم الكلب على صاحبه.. إلى أن انجلى اللثام من على وجه صاحبه، فشعر الكلب بزلته.. هنا..! نكس برأسه خجلاً.. شاء صاحبه على أن يغفر له على ما بدا منه.. فكلمنا إبتغى أن يدخله معه داخل المسكن خيفة العاصفة.. يأبى ذلك الكلب أن يدخل.. كأنه نادم على ما بدر منه.. فجأة.. سقط الكلب على الأرض ميتاً.
ذلك المشهد..! انطبعت لحظاته على عيني الشاب، أثناء ذلك تسللت إلى قلبه من عقله كلمات.. جعل بينهما حواراً، أيموت كلباً لأنه أحسّ بخطيئته تجاه صاحبه..؟! هنا..! إنهمرت الدموع على وجنتيه.. قال مخاطباً نفسه: أيكون كلب يستحي بذنبه من سيده وأنا لم أستح من ربي..؟! خرّ الشاب ساجداً بعد ما امتزجت التوبة بدمه، كان يبكي ويلطم وجهه.. إنها لحظة تأمل وتفكر.. جعلته تائباً خائفاً من الله عز وجل.. لسانه يردد: إلهي العفو.. إلهي العفو.. الهي العفو.
قام من مكانه.. اقترب من جثمان الكلب.. جلس بجانبه، تمعن فيه..! سأله صاحب الكلب: ما بالك أيها الشاب؟ إلا أنه شرد بعقله نحو الكلب.. من يدري أن الكلب كان واعظاً..؟! فجأة..! تعالى صوت الشاب بالبكاء.. (أما آن لي أن أستحي من ربي)، تلك العبارة الأخيرة التي قالها.. ثم زفر أنفاسه بشده.. وانهار جسده بجانب الكلب ميتاً.
نشرت في العدد التجريبي لمجلة المنبر – 1420هـ – 2001م
القراءات :1051