يُقال أن التبرع بالدم هو قمة العطاء الإنساني، بل هو فعلٌ نبيلٌ يحمل في طياته رسالة حياةٍ للآخرين، فهو لا يُنقذ الأرواح وحسب، بل يعزز الترابط الإنساني، ويمثل لمسةً من الرحمة والعطاء غير المشروط.
لكن وسط هذا العمل الجليل قد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ بسيط لكنه قاتل للمعنويات:
إلى أين ومن يذهب دمي بالضبط؟!
فعندما أمد ذراعي بكل ثقة، وأغمض عيني متظاهرًا بأنني شخص رائع يستحق جائزة نوبل في الإنسانية، أتخيل أن دمي سينتهي في جسد طفل ولد مريضًا باضطراب في الدم، يحتاج إلى قطرة حياة ليتمكن من العيش كبقية الأطفال.
أو معلّم أهلكه التدريس وسهر الليالي في خدمة الأجيال، وتُضاف إليه مهام إضافية في طابور الصباح، حيث يصبح مسؤولًا عن الإشراف، وضبط النظام، وإلقاء كلمة تحفيزية لا أحد يسمعها من الطلاب!
أو حتى طبيب أنهكه السهر في ردهات المستشفيات، متعب الجسد لكنه مفعم بالواجب، يرقد الآن طريح الفراش، ينتظر نقطة دم تعيد إليه القوة ليعود إلى مهنته النبيلة، يضع يده بيد الحياة مجددًا وينقذ الأرواح كما فعل طوال حياته.
أو أب موظف مكافح يكسب قوت يومه وأسرته ويخدم البلد براتب طار نصفه في الأقساط،ينهض كل صباح بوجهٍ يشرق بالعزيمة، يسابق الزمن لتأمين حياة كريمة لأطفاله، ويحتاج إلى نقطة دم تعيد إليه القوة لمواصلة رحلته الشاقة مع التحديات.
ولكن ماذا لو ذهب دمي إلى:
محتال متخصص في بيع الوهم العقاري، يعقد صفقات احتيالية تسرق أحلام البسطاء بشراء منازل لا وجود لها؟!
أو رئيس قسم متسلط يستغل سلطته لتعطيل المعاملات، ولا يُنهيها إلا بواسطةأو رشوة من بوفلان؟
أو فاشنيستا قررت الخروج في ساعة متأخرة مع صاحبها متجاهلة قوانين المرور، وتجاوزت الإشارة الحمراء وتسببت في حادث مأساوي لها ولغيرها؟!
أو مراهق مهووس بمواقع التواصل قرر خوض تحدٍ خطير بقطع شريان معصمه، فقط ليحصد آلاف الإعجابات من المتابعين؟!
أو سياسي يجيد فن الخطب الرنانة، لكنه عاجز عن تقديم أي خدمة حقيقية للمواطنين!
الحقيقة المؤلمة أن دمي قد يذهب لأي منهم، ولكن… هل هذا يعني أن أتوقف عن التبرع؟
بالطبع لا! فدوري هو العطاء، لا اختيار من يستحقه، الخير يُزرع دون أن نسأل إن كانت التربة صالحة أم لا، تمامًا كما يفعل النهر حين يروي الأرض دون تمييز، فتزهر بعض البذور وتموت أخرى.
ربما يصل دمي إلى من يحتاجه فعلًا، وربما لا، لكنني فعلت ما عليّ فعله، والباقي فليكن على الله.
وحتى ذلك الحين، أترقب اختراع جهاز عبقري يكشف لي هوية من استلم دمي المتبرع به، ليمنحني لحظة من الرضا أو الذهول وفقًا للمستفيد!