صفير القطار قادم | نشرت في 1999م

لا يدري .. ربما كان نائمًا أو ميتًا، لكنه إذ أفاق بغتة، تخيل نفسه أنه اغتيل.

كان يا ما كان، في هذا العصر والأوان، كان ثمة أنسي شاب، في الخمسين، أبيض الشعر، أسمر الجبهة، عريض ما بين المنكبين، ضاقت به الأحوال في بلده، فقرر الترحال، وأعد لذلك عدته. بنى محطة قطار صغيرة، وجلس ينتظر القطار، وكان موقنًا أنه قادم في زمن ما، من الشمال أو الجنوب، من الشرق أو الغرب.. قادم. صفيره يملأ الآذان، وغبش دخانه يُرى في الأفق، وعجلات عرباته تكر على خطوط حديدية لم تمد بعد.

هيأ دموعًا ومنديلاً وحقيبة كبيرة وكلمات قليلة، ووقف في المحطة التي لم يزرها بشر سواه يصغي إلى صوت قاطرة قادمة من بعيد، ويمني نفسه بأن تقف في محطته.

لم يعد يذكر، لفرط ما انتظر، أمسافر هو أم مقيم؟! .. مستقبل أم مودع؟! وكان يتوهم أنه يعرف الوقت من تعاقب الليل والنهار، ومن تحرك ظله في وقفته، كشجرة مورقة وحيدة، تحت الشمس. لكن سرعان ما أدرك أنه مضى زمن طويل، منذ أن بنى المحطة بساعديه وعرقه، وأن الأيام قد تشابهت. أدرك الليل والنهار، وسارا معًا في عينيه مثل فرسين، أبيض وأسود، يتسابقان ببطء السلحفاة.

وفجأة! ملأ الصفير سمعه، ولم يشك لحظة في أنه القطار المرجو. ها قد جاء الفرج أخيرًا. يا لفرحة المنتظر الذي أثلجت أعضاؤه لفرط ما انتظر. بدأ الصفير خافتًا كأنه صدى أغنية قديمة، ثم وضح وارتفع الصوت. امتدت القضبان الحديدية فجأة فملأت محطته، وحمل الهواء إلى أنفه رائحة دخان فحم حجري مشتعل.

انتهى الانتظار إذًا!

كان قد قرر الرحيل، وكان القطار الذي كان ينتظر كأنه يقول:

– احزم متاعك، وتخلى عن كل شيء.

وما كان يريد أن يهجر حبًا ووطنًا دافئًا، لكنه استسلم لإغراء الرحيل عندما رأى الحضن يبرد، والحب يفتر، والوطن يلفظ. قال للقطار:

– يا رحيلي… يا فراقي، قد يميتني الحزن. آخر مرة نمت فيها حلمت بغرفة مربعة الشكل، متران بمترين من التراب، لكنهما مليئان بالأشجار والأزهار والأطيار والأضواء يمارس فيها الحب دونما خوف.. غرفة، أرضها الترابية بساط الريح، يمر فيها نهر، لمائه طعم العسل. لقد حلمت أنني استبدلت وجهي بوجه آخر، لا تقف الأحزان على قسماته. كان حلمًا لذيذًا، ومرعبًا كذلك… يا رحيلي!

تذكر كل ذلك عندما رأى القطار لأول مرة.

دخل القطار محطته يلهث ويتثاءب، فملأه فرح غامر. لأول مرة يتوقف القطار في المحطة الصغيرة. لم يكن ثمة مسافرون، لا حقائب ولا مناديل ولا دموع. كان مجرد قطار قادم توقف في محطة. أراد أن يصعد إلى عربة من عرباته، فلم يجد لها أبوابًا أو نوافذ.. يا عجبًا.. أهكذا غدت قطارات هذا الزمان؟! ارتبك وملأه حزن غامر، ولفرط كآبته جزع إذ سمع صفير القطار يؤذن بالرحيل بعد ثوانٍ من وقوفه.

لم يبكِ، أراد أن يمنع القطار من الرحيل. كان من حقه، هو المنتظر المتيبس من الانتظار، أن يعرف سر القطار الذي لا يحمل مسافرين، والذي يتبختر بين محطات الدنيا بعربات ليس لها أبواب ولا نوافذ.

وسمع صفير القاطرة يعلو ويشتد، وملأ عينيه وفمه، لكنه لم ينثنِ وأصر على ركوبه.

أخيرًا تحرك القطار. لهث وتثاءب، وسمع دوي عجلاته شبيهًا بانفجار متواصل.

اغتاله القطار الذي كان ينتظره.. واأسفاه على شبابه.. فأنامه نومته الأخيرة وغاص في رحلته التي لا عودة منها.

نُشرت في مجلة صوت الخليج  الكويتية في 27 مارس 1999

Loading

اقرأ أيضاً...