لا يمرّ أسبوع هذه الأيام دون أن نسمع عن أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تهدد بإعادة تشكيل سوق العمل، خاصة في المجالات الإبداعية، وبدأ السؤال يتردد بقوة في الأوساط الثقافية والمهنية: هل ستُمحى مهن مثل الكتابة، التحرير، التدقيق، والرسم من خارطة المستقبل القريب؟ أم أن الذكاء الاصطناعي ليس إلا أداة بيد الإنسان، شأنه شأن الطباعة والكاميرا والكمبيوتر في يومٍ ما؟!
في أبريل الماضي، شاركت في برنامج دولي مكثف للناشرين بعنوان برنامج الشارقة التنفيذي للنشر، والذي نُظم بالتعاون بين جامعة نيويورك للنشر وجامعة الشارقة، كجزء من جهود تطوير القطاع المهني في صناعة النشر على المستوى الإقليمي والدولي، وتضمن البرنامج سلسلة من المحاضرات المتخصصة قدّمها نخبة من الخبراء العالميين في مجالات النشر، التسويق، الذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، مما أتاح لي فرصة التعمق في التحولات الرقمية التي تشهدها الصناعة، ومناقشة الاتجاهات المستقبلية مع رواد المجال من مختلف أنحاء العالم، وأيضا الدافع لكتابة هذه المقالة.
تقول شانتال ريسبيغ، مديرة الاستراتيجية الرقمية في HarperCollins، خلال عرضها عن التحولات الرقمية في النشر والأسواق الناشئة: إن التقنية لا تستبدل البشر، بل توسّع قدراتهم، لكنها تظل في النهاية معتمدة عليهم.
مهن النشر التي تأثرت بالفعل:
- الكتابة: شهدنا في السنوات الأخيرة قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد نصوص متنوعة: مقالات، قصص قصيرة، ملخصات، وحتى سيناريوهات، لكن رغم الطلاقة اللغوية، يظل المحتوى المولّد يفتقر في كثير من الأحيان إلى الجوهر الإنساني ذلك المزيج من التجربة الشخصية، العاطفة، والتأمل العميق الذي يميز الكاتب الحقيقي.
- التحرير والتدقيق: أدوات التدقيق اللغوي الآلي تطورت بشكل مذهل. أصبحت قادرة على كشف الأخطاء وتحسين الأسلوب العام. لكنها ما زالت عاجزة عن فهم النبرة، الدلالة الثقافية، أو تفاصيل اللهجات المحلية—وهو ما يبرز أهمية المحرر البشري في ضبط النص لا من حيث اللغة فقط، بل من حيث الروح.
- الرسم والتصميم: بات بالإمكان توليد صور مذهلة خلال ثوانٍ، لكن هل هذه الصور فنٌّ حقيقي؟ أم مجرّد توليف رقمي؟ وما موقفنا من حقوق الفنانين الذين قد تُسرق أساليبهم عبر خوارزميات التدريب؟ لا شك أن هذه الأسئلة تضعنا أمام مأزق أخلاقي وقانوني عميق.
- الإنتاج والنشر: حتى في مراحل النشر والطباعة، ظهرت أدوات تساعد على تصميم الأغلفة، تنسيق الصفحات، واقتراح استراتيجيات تسويق آليًا. لا يبدو أن هذه الأدوات تلغي الحاجة إلى البشر، لكنها تغيّر طبيعة المهارات المطلوبة.
الذكاء الاصطناعي: تهديد أم تحوّل؟
عبّر كيث ريغيرت، أحد مؤسسي دار النشر Ulysses Press والمهتم بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في صناعة النشر، عن مفارقة لافتة حين أشار إلى أن حتى مطوري الذكاء الاصطناعي أنفسهم باتوا يخشون من أن تُستبدل وظائفهم بذكاء اصطناعي آخر! فليس السؤال هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظيفتي؟ بل هل سأتطوّر لأتعامل معه؟! من يرفض التعلم سيجد نفسه خارج المشهد تدريجيًا، أما من يتقن استخدام هذه الأدوات بذكاء، فسيصبح أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على التركيز في العمل الإبداعي العميق بدلًا من المهام المتكررة.
رغم كل التقدّم الذي أحرزه الذكاء الاصطناعي، لا تزال هناك مجالات إنسانية يصعب عليه تجاوزها أو استبدال البشر فيها. فهناك نوع من التحرير الإبداعي يعتمد على فهم النبرة والنية العميقة للنص، لا يمكن للأدوات الآلية إتقانه، كما أن تقييم النصوص من منظور ثقافي أو أخلاقي يتطلب حساسية عالية وسياقًا معرفيًا لا يتوفر للخوارزميات، أما في مجال الرسم، فتصوير مشهد ينبع من تجربة شخصية أو يعبر عن ألم داخلي أو موقف اجتماعي معقّد، يظل في جوهره إنسانيًا لا يُختزل في معادلة، وكذلك الحال في الكتابة التي تنبع من تجربة حياتية حقيقية، بما تحمله من مشاعر متداخلة وتفاصيل دقيقة، يصعب على أي نموذج ذكي أن يلتقطها أو يترجمها بصدق، وكما ذكرت شانتال ريسبيغ: التقنية تحتاج دائمًا إلى إنسان لتشغيلها، توجيهها، أو تفسيرها.
المثير أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد المهن الإبداعية فقط، بل يفتح مجالات جديدة مثل وظيفة مهندس التوجيه النصي Prompt Engineer الذي يوجّه الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى فعّال، وقد أصبح بإمكان الكتّاب والفنانين استخدام هذه الأدوات لتوسيع خيالهم واكتشاف أفكار غير متوقعة، بل إن بعض المشاريع باتت تُنتج بتكامل بين الإنسان والآلة، كما في القصص المصورة أو الكتب المشتركة، مما أفرز نوعًا جديدًا من الأعمال الإبداعية الهجينة.
أين تقف الأخلاق والقانون؟
هل يُعد الكتاب الذي كتبته آلة عملاً أدبيًا؟ من يملك اللوحة التي رسمها الذكاء الاصطناعي؟ وماذا عن حقوق الفنانين الذين تم تدريب الخوارزميات على أعمالهم؟ كل هذه الأسئلة لم تُحسم بعد، وتحتاج إلى قوانين جديدة تراعي التعقيدات الحديثة.
الخلاصة أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا للإنسان، بل يمكن أن يكون مساعدًا ذكيًا يعزز من قدراته ويختصر عليه الجهد والوقت، إذا ما أُحسن استخدامه. الخطر لا يكمن في الأداة ذاتها، بل في الركون إلى الراحة أو التوجس منها، في الوقت الذي يمكن فيه استثمار هذه التقنيات لتطوير النماذج، وتحليل التوجهات، وخوض تجارب فنية جديدة، من دون أن نفقد هوية العمل الإبداعي أو نُفرّط بروحه البشرية.
نحن أمام مهنة لا تُهدَّد بالزوال، بل يُعاد تعريفها، فالنشر والكتابة والرسم ليست في طريقها إلى الانقراض، بل إلى طور جديد يتطلب منا أن نكون أذكى، أسرع، وأكثر مرونة من أي وقت مضى، الذكاء الاصطناعي لن يقصي أحدًا، لكنه أيضًا لن ينتظر أحدًا.