أنا كاتب قبل أن أكون ناشراً، وخبرتي علمتني أن الغلاف قد يلفت النظر، وعدد الصفحات قد يثير الفضول، لكن ما يدفع القارئ لاقتناء الكتاب فعلًا هو الثقة بالاسم على الغلاف، فالقارئ يفتح الكتاب وهو مؤمن بأن وراءه إنسانًا مسؤولًا، يعرف ماذا يقول ولماذا يقوله، ويقف أخلاقيًا وقانونيًا خلف كل سطر.

الكتاب ليس ملفًا مطبوعًا فحسب؛ هو وعد مهني بين مؤلف وناشر وقارئ، فهذا الوعد يعني دقّة في المعلومة، ونزاهة في السرد، وصنعة تحرير ورسم تُحترم، وحين تتعثّر أي حلقة من هذه السلسلة، لا يخسر النص جماله فقط، بل تخسر الثقة معناها وهي رأس مالنا الحقيقي.

لهذا نحرص على أن تبقى البصمة البشرية في مقدّمة العمل: قرارٌ واعٍ في الفكرة، ومراجعة دقيقة في التفاصيل، ومسؤولية معلَنة عن النتائج، في زمن تتقدم فيه الأدوات الذكية بسرعة، ستظل هذه المبادئ هي الفارق بين “محتوى يُستهلك” وكتاب يُؤتمن، ومن هنا تبدأ القضية التي سنفصّلها في هذا المقال: كيف نُبقي الإنسان في الصدارة، ونضع الأداة في مكانها الصحيح مُساعِدة لا بديلًا؟!

الثقة قبل كل شيء

القارئ حين يقتني كتابًا لا يشتري صفحاتٍ مطبوعة، بل يراهن على ضمير المؤلف وسمعة الدار، والكتاب المصنوع كليًا آليًا يشبه توقيعًا بلا صاحب؛ نصٌّ بلا مسؤولٍ يقف خلفه، فتنشأ فجوة في المصداقية وأسئلة حاكمة:

من يضمن دقّة المعلومات؟

من يتحمّل عواقب الخطأ؟

وعلى مستوى السوق تُترجم هذه الفجوة إلى مؤشرات ملموسة: ارتجاعات أعلى، وتقييمات أدنى، وتردّدٍ من الموزّعين والشركاء، وقد تتعثر شراكات محتملة.

لذلك نحمي رأس مالنا الحقيقي (الثقة) بأن نبقي الإنسان في الصدارة: كتابةً ورسمًا وتحريرًا، ونستخدم الأدوات الذكية كمُساعِد للعصف والتنظيم لا كبديل يصنع الكتاب وحده.

حقوق مَن؟!

 في النشر يبدأ كلّ شيء بسؤال بسيط وصعب: من المؤلف فعلًا؟

عقد النشر يقوم على “سلسلة ملكية” واضحة: شخصٌ بشري يكتب أو يرسم، يقرّ بالأصالة، ثم يمنح حقوق الاستغلال.

أمّا حين يُنتَج النص أو الرسوم كاملًا عبر أداة توليد، تصبح المؤلفية منطقة رمادية: لا يسهل إثبات الأصالة ولا تقديم ضمانات نظيفة للموزّعين والمنصّات، وقد تتشابه المخرجات مع أعمال قائمة أو تتورّط في حقوق طرف ثالث (أسلوب فنان، صورة شخص، شعار علامة) بلا إذن، فتُعرّض العنوان للسحب أو النزاع وتُضعف العقود والتوزيع.

مصادر «ملوَّثة» وتشابهات خفيّة!

النماذج لا تُبدِّع من فراغ؛ هي تتعلّم من بحرٍ هائل من مواد منشورة أصلًا، لهذا قد تُنتِج من دون قصد نصوصًا أو رسومات شديدة الشَّبه بأعمال قائمة: تركيب جملة مألوف، لفتة فرشاة معيّنة، أو بصمة لونية تشير إلى فنان بعينه.

هذا الشَّبه قد لا تلتقطه العين في اللحظة الأولى، لكنه كافٍ ليوقظ الأسئلة القاسية: هل هذا أثرنا أم ظلُّ شخصٍ آخر؟!

ولأن الصناعة تتجه إلى إثبات المنشأ لا إخفائه، تظهر تقنياتٌ ومنصّاتٌ ترصد أثر التوليد وتوثِّق تاريخ الإنشاء والأدوات المستخدمة، ومعنى ذلك مهنيًا بسيط وواضح: التمويه يفقد مفعوله، وأي تطابقات مُربِكة اليوم قد تصبح دليلًا مباشرًا غدًا، بما يعرّض العنوان للإزالة أو المطالبة بالتعويض.

أخطاء وهلوسة!

النماذج الذكية تجيد صياغة الخطأ بثقة: تُركّب حكاية تبدو محكمة، لكنها تُسقِط سياقًا، تخلط أسماءً وتواريخ، أو تضع اقتباسًا لم يَقُلْه صاحبه أصلًا! أحيانًا تُحيل إلى مرجعٍ غير موجود، أو تُجمِّل معلومة ناقصة فتغدو حقيقة زائفة بعبارات منسابة.

هذا النوع من الأخطاء لا يُحسب على الأداة، بل على الاسم على الغلاف! خطأٌ واحدٌ في واقعة تاريخية أو نسبة قولٍ إلى غير قائله يضر الثقة، ويرفع كلفة التراجع والتصحيح، وقد يفتح باب مساءلة قانونية ورقابية خصوصًا في كتب السير، والدين، والعلوم، وكل ما يمسّ السمعة والحقوق.

الرسم ليس آمنًا دائمًا!

الصور المولَّدة قد تبدو “بريئة”، لكنها تحمل مخاطر حقيقية: النموذج يتعلّم من أعمال منشورة، فيستنسخ ملامح أسلوب فنان بعينه أو يُشبه وجوه أشخاص حقيقيين من دون إذن، وأحيانًا يلتقط شعارات وعلامات وكأنها جزءٌ طبيعي من المشهد! هنا لا نتحدّث عن ذوقٍ فني فحسب، بل عن مسؤولية قانونية وأخلاقية تقع على من يضع اسمه على الغلاف: تشابهٌ مُضلِّل قد يعني نزاعًا، وانتحالُ أسلوبٍ قد يُعدّ تعدّيًا، واستعمال شعارٍ أو شخصية معروفة قد يجرّ عقوبة.

كناشرين، لا نراهن على “حُسن النية” في الصور؛ نراهن على أصالةٍ يمكن الدفاع عنها، الصورة التي لا نعرف نسبها ولا أذوناتها تُعرّض الكتاب للسحب وتُضعف عقود التوزيع، حتى لو كانت جميلة، الحل ليس هجر التكنولوجيا، بل وضعها في مكانها الصحيح: مرسمٌ تمهيدي للأفكار، ثم تنفيذٌ بشري أصيل يمكن توثيقه والوقوف وراءه.

سياسات ومنصّات

توزيع الكتب اليوم يمرُّ عبر منصّات تضع قواعد واضحة: أفصح أو تحمّل العواقب، كثير من المتاجر الرقمية باتت تسأل صراحة: هل في هذا العنوان محتوى مُولَّد آليًا؟ هل هو مُساعَد أم مُصنَّع؟ ومخالفة الإرشادات لا تعني ملاحظةً عابرة؛ قد تعني سحب الكتاب أو إيقاف الحساب، ولسنا نتكلّم نظريًا: شهدنا سحب عناوين منسوبة كذبًا لكتاب معروفين بعد أن تبيّن أنّها نُسِجت آليًا فوق أسماؤهم!

من منظور ناشر، هذه ليست قضية علاقات عامة، بل انضباط مِهني يحمي القارئ والدار معًا، واجبنا أن نضمن سلسلة ملكية نظيفة، وأن نُثبت الدور البشري في التأليف والرسم والتحرير، وإذا استُخدمت أدوات ذكية فلتكن مساعدة مُعلَنة لا بديلًا يُخفي أثره. الشفافية هنا ليست اعترافًا بالذنب، بل سياسة وقائية تُجنّبنا الإزالة والحظر وتبني جسر الثقة مع المنصّات والمتاجر والشركاء.

سمعة العلامة: الضرر الذي لا يزول بسرعة!

سمعة الدار تُبنى ببطء وتنهدم بسرعة، كتابٌ واحد مُصنَّع بالكامل آليًا كفيل بأن يترك بقعة طويلة الأمد: ترتفع المرتجعات، تتراجع التقييمات، يتردد الموزّعون، وتُغلق أبواب الشراكات! وحتى لو حمّلتَ المؤلف التبعات في العقد، تبقى الضربة على العلامة: القرّاء لا يفرّقون بين خطأ فردي واسم الدار على الغلاف.

ولأن منصّات النشر باتت تطلب الإفصاح عن المحتوى المولّد وتُلزم ببنود ضمان وتعويض عند الإخلال بحقوق الغير، فإن المخاطرة لا تقف عند “سحب عنوان”؛ إنها تهدّد رصيد الثقة الذي تعيش عليه أي دار.

البديل العاقل: إنسانٌ أولًا… وAI مُساعِد

هو أن يقود الإنسان العمل ويأتي الذكاء الاصطناعي مُساعِدًا فقط: نكتب ونرسم ونحرّر نهائيًا بأيدٍ بشرية تتحمّل المسؤولية، ونستخدم الأدوات الذكية للعصف والتنظيم وتنسيق المسودات لا لإنتاج الكتاب الجاهز. فكرة وموقف يضعهما المؤلف، ثم عصف منظّم بالأدوات لتوليد مخطط، فمسودة بشرية كاملة، تليها مراجعة حقائقية وتحريرية وقانونية، مع توثيق الأدوار والإفصاح الرشيد عند اللزوم.

خطوطنا الحمراء واضحة: لا نصوص نهائية منسوخة من نموذج، ولا أغلفة أو رسوم مولَّدة تُنشر كما هي، ولا وجوه أو شعارات دون أذونات مكتوبة.

خلاصة فلسفتنا: إنسانٌ يُبدع ويوقّع… وأداة تُقترح وتُرتِّب.

كيف ننشر بأمان؟! ضوابط مقترحة لاستخدام ذكي

  • عقد حقوق واضح: نحدد في العقد مَن يملك النص، الرسوم، الغلاف، وحقوق الطباعة الرقمية، حقوق التوزيع.
  • فحص الأصالة: نعمل تقرير تشابه + مراجعة بشرية؛ إذا وُجد شبه ملحوظ نُعدّل أو نعيد الرسم والصياغة بشرياً
  • التزام قانوني في المنصات: لا شعارات ولا مشاهير ولا انتحال أسلوب فنان إلا بإذن مكتوب محفوظ.
  • تدقيق تحريري: محرّر بشري يراجع الأسماء والتواريخ والاقتباسات ويصحّح أي هلوسة قبل الطباعة.
  • توثيق بشري + إفصاح: صفحة البيانات يجب أن تُظهر أسماء: المؤلف، الرسّام، المحرّر، وتوضح أن أدوات الذكاء الاصطناعي استُخدمت كمساعدة للعصف أو للتدقيق لا كمصدر مؤلف للمحتوى النهائي.

الكتاب وعد بالصدق قبل أن يكون منتجًا.
دع الأدوات تساعدك في التفكير والترتيب، لكن اترك على الصفحة أثر إنسانٍ يمكنه أن يشرح ويعتذر ويدافع.
اختَر طريقًا نظيفًا: كتابة ورسم وتحريرٌ بشري، وفحصٌ وأذوناتٌ موثَّقة، وإفصاحٌ عند اللزوم.
بهذه البساطة تحمي القارئ والدار، وتبني اسمًا يعيش أطول من أيّ صرعة تقنية.

Loading

كيف نستفيد من معارض الكتب بأقصى طريقة ممكنة؟

كيف نستفيد من معارض الكتب بأقصى طريقة ممكنة؟

يستفيد القراء من زيارة معارض الكتب بطرق متنوعة تجعل التجربة غنية وممتعة، فهي لا تقتصر على شراء الكتب فحسب، بل ...
تحت القصف

تحت القصف

كانت السماء في تلك الليلة ترتجف بين صوت القذائف وأزيز الطائرات، ولم يكن لأحد أن يميز بين دمعة وقطرة مطر، ...