
خلال وجودي في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب 2025، بدا لي واضحًا أن هذا الحدث لم يعد مجرد مساحة لعرض الكتب وإبرام صفقات النشر كما يُتصوَّر عادة، فمن داخل القاعات، في ممرات اللقاءات المهنية، وفي جلسات النقاش المفتوحة، ظهر أن الكتاب أصبح نقطة انطلاق لحوار أوسع بكثير: عن مستقبل الصناعة، وعن دور الإنسان أمام الذكاء الاصطناعي، وعن حرية التعبير ومعنى أن نقرأ في زمن تتراجع فيه عادة القراءة عالميًا.
نعم، الكتب كانت حاضرة في كل زاوية، لكن الأحاديث الدائرة حولها كانت أعمق منها: من يكتب؟ من يملك المحتوى؟ وهل سيبقى القارئ قارئًا كما نعرفه… أم سيتحوّل إلى مستمع، أو متلقٍ بصري، أو حتى شريك للآلة؟!
الذكاء الاصطناعي… بين القلق والفرصة
الذكاء الاصطناعي كان الموضوع الأكثر حضورًا في الجلسات المهنية، وما كان لافتًا أنّ النقاش لم يدُر حول “هل سيؤثر؟” بل حول “كيف سنتعامل معه؟”.
أبرز ما طُرح:
-
وزير الثقافة الألماني حذّر من أن الشركات التقنية تمارس “استعمارًا رقميًا للمحتوى الإبداعي”!
-
جلسة بعنوان “الذكاء الاصطناعي والمعركة من أجل الواقع” ناقشت كيف أصبحت الخوارزميات قادرة على إنتاج نصوص تُشبه ما يكتبه البشر، لكن دون ضمير أو مسؤولية!
-
مع ذلك، كان هناك رأي آخر يدعو للتعامل الواقعي: بعض دور النشر أعلنت أنها بدأت رسميًا باستخدام الذكاء الاصطناعي في الترجمة الأولية للمخطوطات، ثم مراجعتها بشريًا.
التكنولوجيا ليست سؤال “هل نستخدمها أم لا؟” بل “كيف نستخدمها دون أن تمحو دور الإنسان؟”.
السياسة، حرية التعبير، ومسؤولية الكِتاب
هذه الدورة من المعرض شهدت حضورًا قويًا للموضوعات السياسية والحقوقية، ليس كجدل جانبي، بل كجزء أصيل من هوية المعرض.
ما الذي حدث فعليًا؟
-
برنامج ثقافي بعنوان Frankfurt Calling جمع كتّابًا، ناشرين، ممثلين عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية.
-
النقاشات تناولت قضايا مثل: حدود حرية التعبير، الرقابة الناعمة على المؤلفين، ودور الكتب في مواجهة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة.
-
ماريا ريسا، الحائزة على نوبل، قدّمت خطابًا قويًا قالت فيه: “نحن نعيش في زمن تنتشر فيه الأكاذيب أسرع من الحقيقة! المنصّات الرقمية أصبحت تتحكم بما نصدّق”.
الملفت: إدارة المعرض أكدت رسميًا أنها “منصة حرة، لكنها ليست محايدة تجاه السلوك غير الإنساني أو العدائي”، بمعنى: حرية التعبير موجودة، لكن ضمن إطار أخلاقي ومسؤول.
هل ما زال العالم يقرأ؟ الأرقام تُجيب بوضوح
داخل إحدى القاعات المهنية، عُرضت دراسة قدّمها اتحاد الناشرين الأوروبيين، والرقم الأبرز كان صادمًا: نحو نصف الأوروبيين لا يقرؤون كتابًا واحدًا خلال العام!
لماذا؟! ليس بسبب المال، ولا ضيق الوقت كما يُعتقد دائمًا، بل السبب الأول حسب الدراسة كان: “عدم الاهتمام” بنسبة 51%.
ومع ذلك… لم تختفِ القراءة، لكنها تغيّرت:
أكثر الأنواع طلبًا داخل المعرض وبين صفقات الحقوق كانت:
-
الرومنتازي (Romantasy): مزيج بين الفانتازيا والرومانس.
-
High-Concept Fiction: روايات تقوم على فكرة واحدة قوية يمكن تلخيصها في جملة وتحويلها بسهولة إلى فيلم أو مسلسل.
-
الكوميديا الرومانسية، وكتب “الهروب من الواقع”.
-
الكتب الصوتية أصبحت جزءًا أساسيًا من سوق النشر، وليس مجرد “صيغة إضافية”.
الناس ما زالوا يستهلكون القصص، لكن ليس بالضرورة عبر الكتب الورقية كما عرفناها دائمًا، بل من خلال من من غيرها.
الكتاب… أم مشروع متعدّد الوسائط؟
في كل قاعة تقريبًا، لم يكن الكتاب يُعرض وحده، بل يهدف لأن تباع حقوقه ليكون كجزء من مجموعة أوسع:
-
بودكاست.
-
حقوق لتحويله إلى فيلم أو مسلسل.
-
سيناريوهات معدّة لسلاسل رسوم متحركة.
-
ألعاب.
-
منصّات تفاعلية رقمية.
الناشرون باتوا يستخدمون مصطلحًا واضحًا:
IP – Intellectual Property (ملكية فكرية قابلة للتحويل) أي أن القيمة ليست في الورق وحده، بل في الفكرة التي يمكن أن تعيش في أكثر من وسيط.
بمعنى آخر:
الكتاب اليوم هو “نقطة بداية”، وليس نهاية الرحلة.
الكتب الصوتية وصوت المستقبل
هذا العام، خصّص المعرض مساحة كاملة باسم Frankfurt Audio Area، بالإضافة إلى برنامج نصف يوم كامل لمناقشة الكتب الصوتية، بحضور شركات مثل Audible وSpotify.
لماذا تعتبر هذه النقطة مهمة؟
-
لأن جيلًا كاملًا بات يسمع أكثر مما يقرأ.
-
لأن الكتاب الصوتي ليس مجرد “نسخة مسموعة”، بل صناعة ضخمة تشمل التمثيل الصوتي، الإخراج، المؤثرات الصوتية، والتوزيع العالمي.
-
بعض الإحصائيات داخل المعرض أشارت إلى أن مبيعات الكتب الصوتية في بعض الأسواق الأوروبية تضاعفت خلال 3 سنوات فقط.
تلك هذه القضايا… ماذا تعني لنا كعرب؟
رغم أن النقاشات كانت عالمية، إلا أن حضورها يمسّ مستقبل النشر العربي بشكل مباشر:
| القضية | ماذا تعني لنا عربيًا؟ |
|---|---|
| الذكاء الاصطناعي | هل نستثمر فيه للترجمة والنشر الرقمي؟ أم نخشاه دون الدخول فيه؟ |
| أزمة القراءة | كيف نعيد الكتاب جزءًا من حياة الجيل الجديد؟ وبلغة يفهمها؟ |
| تعدد الوسائط | هل نرى قصصنا تتحول إلى فيلم، لعبة، أو كتاب صوتي؟ |
| حرية التعبير | كيف نشارك في النقاش العالمي ونحن جزء من منطقة مليئة بالحساسيات السياسية والثقافية؟ |
ما بعد فرانكفورت
ورغم كل الأسئلة والقلق حول مستقبل النشر، كان الجو العام في فرانكفورت أبعد ما يكون عن التشاؤم، فكثير من الناشرين تحدثوا بثقة عن موسم قوي، وصفقات جديدة، وإيمان بأن الكتاب ما زال حاضرًا مهما تغيّرت وسائله.
وفي أحد المباني المخصصة للبيع للجمهور، كانت الصورة أوضح من أي تصريح: قاعات مكتظة، طوابير طويلة، وكتب تُباع بسرعة. مشهد يختصر الحقيقة ببساطة: القراء لم يختفوا… فقط تغيّروا، لكنهم موجودون.
معرض فرانكفورت 2025 أثبت أن التحديات كبيرة، نعم، لكن الصناعة ما زالت تنبض، وتقاوم، وتؤمن بأن للكلمة مستقبلًا ، حتى ولو تبدّل شكلها.
ما خرجتُ به من المعرض ليس كومة كتب، بل مجموعة أسئلة أهم بكثير:
-
هل سيبقى الكاتب بشكله المعروف؟
-
هل سيصبح الكتاب مجرد نموذج أولي لفيلم أو لعبة؟
-
هل سيختفي القارئ… أم سيتحوّل إلى مستمع ومشاهد ومتفاعل؟
ومع كل النقاشات، ظلّت جملة واحدة تتكرر على ألسنة الكثيرين هناك:
“نعم، العالم يتغيّر… لكن الحاجة إلى القصة لا تختفي”.
![]()

