من الصعب أن أمرّ على معرض الكويت للكتاب دون أن يستيقظ الطفل القديم في داخلي، أول زيارة لي كانت وأنا في السابعة، أرافق والدتي (رحمها الله) وأتذكر لحظتها الأولى كأنها أمس، يدها تمسك بي، ورائحة الورق، والبائع العراقي الذي ابتسم وهو يناولني أول كتاب في حياتي، ويضيف معه مجلة “المزمار” هدية.
هكذا بالبساطة بدأ كل شيء.
كبرت قليلاً، وصارت زياراتي معه مرتبطة بالمدرسة، كنّا نمشي في مجموعات ثنائية، ونتجمع عند الساعة الثانية عشرة كما لو أن الزمن كله متفق علينا، كان المعرض في تلك الأيام خالصًا للكتب فقط لدرجة أنني عطشت مرة، وسألت المعلم عن الماء، فقال لي بواقعية قاسية: “ما في ماي، انطر لما نرجع المدرسة و اشرب على كيفك”! ضحكتي اليوم على تلك اللحظة أكبر بكثير من عطشي وقتها.
أجمل ما اشتريته في تلك المرحلة كان “غطاوي كويتية” من مكتبة ذات السلاسل الكويتية كتاب صغير، لكنه تحوّل لبطاقة عبور إلى ألعاب ومسابقات وذكريات مع الأصدقاء والعائلة، ولا زال يباع حتى اليوم، كأن الزمن يبتسم لي كلما رأيته.
ولا أنسى زميلي حمد بوغيت حين اشترى كتابًا نادرًا عن كرة القدم من مكتبة لبنان ناشرون اللبنانية، كنا نعتبره كنزًا، وتحوّل اسمه بيننا إلى أسطورة صغيرة، بحث عنه كل الطلاب، وأنا واحد منهم، فقط لنحصل على نسخة من ذلك الكتاب العجيب!
في تلك الحقبة، كانت المجلات هي الاختيار الشعبي لمن لا يستطيع شراء الكتب، إن لم تستطع شراء شيء ثقيل، فمجلة خفيفة تكفي لتشعر بأنك خرجت بغنيمة.
وفي الثانوية صارت زيارات المعرض محتكرة على المتفوقين الأوائل فقط، بما أنني لم أكن “الأول” يومًا على فصلي، فقد كنت أتنقل بين الثاني والثالث! ولذلك لم أضمن مقعدي دائمًا، كان هناك شيء من الخيبة، لكنني كنت أجد لي طريقًا بطريقة أو بأخرى.
ثم دخلت الكلية، وتغيّر كل شيء، صرت أملك سيارة ورخصة قيادة، وصارت الزيارات للمعرض ثلاثًا على الأقل: الأولى للاكتشاف، الثانية للشراء بتركيز، والثالثة “تمشيّة” لأتأكد أن شيئًا لم يهرب مني. كانت تلك الزيارات هروبي الصغير من ضغط المحاضرات.
أبوح بسر صغير.. وقتها، كنت أعمل مساءً في دار الحدائق اللبنانية، في أول وظيفة في حياتي براتب 35 دينار فقط طيلة أيام معرض! ومع هذا.. لا أنسى فرحتي، كنت في قلب المعرض كل يوم، أتعلم، أرى، أتنفس الكتب، لم يعلم أحد أن تلك الأيام صنعت جزءًا كبيرًا منّي.
ومع السنوات، أصبحت زيارة المعرض عادة عائلية سنوية، شيء يشبه الاحتفال الصغير مع طقوس نصنعها لأنفسنا كل عام.
ثم جاء يوم وُلد فيه أول إصدار لي”زينب وشجرة التوت الأسود”، شعورٌ يشبه لحظة ميلاد غير مرئي، كانت دار بلاتينيوم الكويتية هي البيت الذي فتح لي أبوابه لأقف أمام الجمهور للمرة الأولى.
وفي 2014 ولدت دار كشمش، ووجدت نفسي في الجانب الآخر من الرحلة، رحلة الناشر، كانت جميلة وصعبة في الوقت نفسه، خلال سنوات عدة.. مررنا بصالة 7 الخاصة بالأطفال، ثم صيانة الصالة، ثم تلك الخيمة الخارجية التي شعرت يومها أنها تضع دور نشر الأطفال في الهامش، الأمطار كانت تهطل علينا حرفيًا، إلى أن جاء قرار توزيع الدور في اللوبي، وبدأت العدالة تعود قليلًا.
ثم جاءت الجائحة، وتوقف المعرض لعامين، كان ذلك مؤلمًا للجمهور كما لنا، لكن في أول سنة بعد الجائحة، عاد الناس بقوة، وكأنهم يقولون: هذا المعرض جزء من ذكرياتنا، لا يُنتزع.
وفي السنوات الأخيرة، صرت أتنقّل بين معارض عربية وعالمية، أحمل معي ما أتعلمه هناك، وأرجع به إلى الكويت، بحثًا عن فائدة، أو فكرة، أو إضاءة جديدة، وما زلت، مثل كثيرين، أقاتل وأكمل، لأن الحياة تستحق أن نحارب لأجل ما نحب.
![]()

