الليل يرخي سدوله، والطرقات تكتسي بثوب السكون، إلا من ضوء المصابيح المتراقص فوق الأرصفة الخالية، خُطى متثاقلة تقترب من جهاز الصراف الآلي، يدٌ تُخرج بطاقة مصرفية من محفظة أنهكها الاستعمال، أصابعٌ تضغط الأزرار بآلية رتيبة، ورقمٌ سري يُدخل، لم يكن ما تبقى في الحساب كثيرًا، لكنه يكفي لسداد الإيجار الشهري.
تصدر الآلة همهمة رتيبة، تبتلع البطاقة للحظات، ثم تخرج إيصالًا مطبوعًا، تلتقطه يدٌ اعتادت على هذا الطقس الشهري، نظرة عابرة تتحول إلى جمود، ثم إلى اتساعٍ مباغت في العينين، عبارة غير مألوفة تنبثق من الورقة كضوء خاطف:
تهانينا.. مليون دينار في حسابك! راجع أقرب فرع لمعرفة التفاصيل.
القلب يخفق بعنف، اليد ترتعش، العقل يتأرجح بين التصديق والريبة! مليون دينار؟! رقمٌ أشبه بالسراب، لكنه مطبوع بوضوح أمام عينيه، قطرة عرق باردة تنساب على جبينه، والأنفاس تضطرب كرياح عاصفة. أيمكن للحياة أن تتبدل في غمضة عين؟!
الطريق إلى المنزل بدا أطول مما ينبغي، كل فكرة تلد أخرى، كل احتمال يشرع له أبوابًا لم يكن يجرؤ على تخيلها، وحين تمدد فوق سريره، كان النوم مستحيلًا! كيف يغمض جفن المرء وهو على أعتاب مجدٍ لم يخطر له في أشد أحلامه جنونًا؟!
السيارة الفارهة أولًا، سوداء كليل مترف، يعكس بريقها أنوار المدينة، ومقاعدها الوثيرة تفوح برائحة الرفاهية، ثم المسكن الجديد، وشاليه ساحر يطل على البحر، أو ربما شقة فاخرة خارج البلاد، ملاذًا من صخب الأيام الرتيبة، تأسيس إمبراطورية تجارية، استثماراتٌ في البورصة والعقارات، صفقاتٌ تُعقد مع نخبة رجال النفوذ، صورٌ تلتقطها عدسات الإعلام، الصحف تتحدث عن رجل الأعمال الطموح، والوجوه تتلفت نحوه إعجابًا أو رهبة، الأصدقاء؟!سيختار من يبقى منهم، وسيطرد من استصغره ذات يوم! الزوجة؟! الطلاق مفتاحٌ لبابٍ جديد، والبدائل متوافرة، بل يتسابقن نحوه! أما العيال؟! فتكفيهم النفقة، وليكملوا حياتهم كيفما شاءوا.
رنَّ المنبه، ليبدد غبار الأحلام ويعيده إلى الواقع. أخيرًا، الصباح يشرق، الخُطى متسارعة نحو البنك، الإيصال يُدفع إلى الموظف بيدٍ متلهفة، والعينان تحترقان بالترقب، يتناول الموظف الورقة، يطالعها بنظرة هادئة، ثم يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة:
هذه حملة تسويقية تُطبع على جميع الإيصالات!