في السنوات الأخيرة، عززت تركيا مكانتها في قطاع النشر على المستوى الدولي، مدفوعة بمبادرات حكومية وخاصة تهدف إلى تصدير الأدب التركي وترجمة الأعمال الأجنبية إلى التركية، ويعكس هذا التوجه رغبتها في استخدام الثقافة كأداة للقوة الناعمة، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في المشهد الثقافي العالمي، وتعتبر المبادرات الثقافية التركية في قطاع النشر أحد أهم الأدوات التي ساعدت في تحقيق هذا الهدف، حيث أطلقت الحكومة برامج دعم الترجمة، واستضافت معارض نشر دولية، وعززت العلاقات بين الناشرين الأتراك ونظرائهم في العالم العربي وأوروبا وآسيا، نستعرض أبرز هذه المبادرات وتأثيرها على قطاع النشر الدولي، بالإضافة إلى التحديات والفرص التي تواجهها تركيا في هذا المجال:
برنامج الترجمة والنشر (TEDA): جسر الأدب التركي إلى العالم
يعد برنامج الترجمة والنشر (TEDA) من أهم المبادرات التي أطلقتها الحكومة التركية لدعم نشر الأدب التركي عالميًا، بدأ هذا البرنامج عام 2005 كمبادرة من وزارة الثقافة والسياحة التركية لدعم دور النشر الأجنبية التي ترغب في ترجمة الأدب التركي إلى لغات أخرى.
ويهدف TEDA إلى تعزيز الوعي العالمي بالأدب التركي من خلال تقديم منح للناشرين في الخارج، مما يساعد في تقليل تكاليف الترجمة والطباعة والتوزيع، وقد نجح البرنامج في تمويل ترجمة آلاف الكتب التركية إلى أكثر من 60 لغة، بما في ذلك العربية، الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، والروسية.
تشير الإحصاءات إلى أنه منذ إطلاق TEDA، تمت ترجمة أكثر من 3000 كتاب تركي إلى لغات متعددة، مما ساعد في تعزيز انتشار الأدب التركي وجذب اهتمام القراء الدوليين، ومن بين الأسماء البارزة التي استفادت من هذا البرنامج أورهان باموق، وإليف شفق، وأياز كايا، الذين تُرجمت أعمالهم إلى عدة لغات عالمية.
لكن البرنامج لم يقتصر على الروايات فقط، بل شمل كتب الأطفال، والكتب الأكاديمية، والأعمال الفكرية، مما وسّع دائرة التأثير الثقافي التركي عالميًا.
زمالة إسطنبول للنشر: منصة للقاء الناشرين الدوليين
إلى جانب دعم الترجمة، أطلقت تركيا برنامج زمالة إسطنبول للنشر عام 2016 كمنصة لربط الناشرين الأتراك مع نظرائهم الدوليين، يُعقد هذا الحدث سنويًا في إسطنبول ويجمع ناشرين، ووكلاء أدبيين، ومترجمين من مختلف أنحاء العالم.
في دورته الأخيرة، استضاف البرنامج ناشرين من أكثر من 60 دولة، مما ساهم في توقيع مئات الاتفاقيات لترجمة ونشر الكتب التركية في الخارج. وتكمن أهمية هذا البرنامج في أنه يتيح لقاءات مباشرة بين الناشرين الأتراك والدوليين، مما يسهل عملية التفاوض وتبادل حقوق النشر، ويعزز حضور الكتب التركية في الأسواق العالمية.
نجح البرنامج في إبرام أكثر من 1000 اتفاقية نشر منذ انطلاقه، مما يجعله أحد أكثر الفعاليات تأثيرًا في قطاع النشر التركي. كما يُعتبر جسرًا مهمًا لتوسيع التعاون الثقافي بين تركيا والعالم العربي، حيث شهد مشاركة واسعة من الناشرين العرب الباحثين عن أعمال تركية لترجمتها إلى العربية.
معارض الكتب: بوابة تركيا للعالم الأدبي
إلى جانب برامج الترجمة والتواصل بين الناشرين، تستضيف تركيا عددًا من معارض الكتاب الدولية التي تلعب دورًا رئيسيًا في الترويج للثقافة التركية عالميًا:
- معرض إسطنبول الدولي للكتاب: يُعتبر من أكبر معارض الكتب في المنطقة، ويجذب مئات الآلاف من الزوار سنويًا. يتيح المعرض فرصة للناشرين الأتراك لعرض أعمالهم أمام نظرائهم الدوليين، كما يستضيف جلسات توقيع، وحوارات أدبية، ومنتديات تناقش قضايا النشر والترجمة.
- معرض إسطنبول للكتاب العربي: في السنوات الأخيرة، أصبح هذا المعرض وجهة رئيسية لناشري الكتب العربية، حيث يشارك فيه أكثر من 100 ناشر عربي سنويًا، مما يعكس نمو التعاون الأدبي بين تركيا والعالم العربي.
- مشاركة تركيا في المعارض العالمية: إلى جانب المعارض المحلية، تشارك تركيا كضيف شرف في معارض دولية مثل معرض فرانكفورت للكتاب، ومعرض لندن للكتاب، ومعرض بولونيا الدولي لكتاب الطفل، مما يتيح فرصة لتسويق الأدب التركي على نطاق عالمي.
تُشكل هذه المعارض منصة مهمة لتعزيز التواصل بين الناشرين الأتراك والدوليين، كما تسهم في زيادة الصادرات الثقافية التركية.
التحديات التي تواجه قطاع النشر التركي دوليًا
رغم نجاح هذه المبادرات، لا تزال هناك تحديات تواجه تركيا في سعيها لتعزيز حضورها في قطاع النشر الدولي:
- نقص الترجمة العكسية: في حين أن الأدب التركي يُترجم إلى العديد من اللغات، فإن نسبة الكتب العربية المترجمة إلى التركية لا تزال محدودة، مما يخلق فجوة معرفية في الاتجاه المعاكس.
- التحديات اللوجستية والتسويقية: رغم الجهود الحكومية، لا يزال تسويق الكتب التركية في الخارج يواجه صعوبات، خاصة فيما يتعلق بالتوزيع والترويج في الأسواق العربية مقارنة بالأسواق الأجنبية.
الفرص المستقبلية لتعزيز النشر التركي دوليًا
ورغم التحديات، هناك فرص كبيرة يمكن لتركيا استغلالها لتعزيز دورها في قطاع النشر الدولي:
- توسيع برامج الترجمة: يمكن لتركيا زيادة استثماراتها في دعم الترجمة من وإلى التركية، مما يسهم في تعزيز التبادل الثقافي المتوازن.
- الاستفادة من المنصات الرقمية: يمكن لتركيا تعزيز استخدام الكتب الإلكترونية والمنصات الرقمية للوصول إلى جمهور أوسع عالميًا.
- تعزيز الشراكات مع العالم العربي وأوروبا: توسيع التعاون بين الناشرين الأتراك والعرب والأوروبيين سيسهم في خلق سوق نشر أكثر تنوعًا وديناميكية.
- تشجيع التبادل الثقافي: يمكن لتركيا أن تستثمر أكثر في المنح الدراسية والتبادلات الأدبية لتعزيز الحوار الثقافي بين الكتاب والناشرين من مختلف الدول.
بفضل مبادراتها الثقافية الواسعة نجحت تركيا في ترسيخ مكانتها في قطاع النشر الدولي بفضل مبادرات الترجمة والمعارض والتعاون مع الناشرين العالميين، وعلى العالم العربي الاستفادة من هذه التجربة من خلال تعزيز الشراكات الثقافية، ودعم الترجمة، والمشاركة الفعالة في معارض الكتاب التركية، إن التعاون العربي-التركي في النشر يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لنشر الأدب العربي عالميًا وتعزيز التبادل الثقافي بين الشرق والغرب.