لا أخفيكم سرًا، منذ بداياتي كطفل صغير في بيت محافظ كنت أحمل في حقيبتي المدرسية كتابًا صغيرًا عن قصص الأنبياء، كانت حكاياته مشوقة في وقتها، أو على الأقل هذا ما كنت أظنه، لكن مع الوقت، ومع تراكم الخبرة في مجال النشر واحتكاكي بأجيال متلاحقة من الأطفال، بدأت أطرح على نفسي سؤالًا بسيطًا: لماذا لم يعد أبناؤنا ينجذبون للكتاب الديني كما كنا نفعل في السابق؟ ولماذا نجد فجوة واسعة بين محتوى تلك الكتب وما يعيشه الطفل اليوم؟

لغة تقليدية في عالم يتغير

غالبية الكتب الدينية الموجهة للأطفال، حتى اليوم، ما زالت محكومة بقوالب قديمة: لغة ثقيلة، جُمل وعظية أو منقولة نصًا من المصادر الدينية دون محاولة للتبسيط أو إعادة الصياغة بما يناسب عالم الطفل، ألاحظ ذلك حتى في الإصدارات الجديدة أحيانًا، فبينما تتسارع لغة الأطفال نحو البساطة والتلقائية، يبقى الكتاب الديني متماسكًا بجلاله ووقاره، لكن بعيدًا كل البعد عن فضول الطفل وحياته اليومية.

مرّ علي كتاب للأطفال قبل فترة قصيرة كان يحكي قصة أصحاب الفيل، لكنه استخدم ألفاظًا قد تعجز حتى بعض الأمهات عن شرحها، بالمقابل، رأيت كتبًا دينية (لديانات متعددة) من دور نشر عالمية تقدّم القيم ذاتها بقصة مصورة، حوار عفوي، أو حتى نشاط عملي يجعل الطفل جزءًا من التجربة بدل أن يكون مجرد متلقٍ.

بين الطفل المعاصر والكتاب الديني: منافسة غير عادلة

الطفل اليوم يعيش وسط عاصفة من المؤثرات البصرية: يوتيوب، تيك توك، ألعاب إلكترونية… عالم متغير بالكامل لا يعرف فيه الطفل معنى الانتظار، ولا يقبل فيه شيئًا بلا متعة أو تفاعل، في هذا الجو، هل يمكن أن يصمد الكتاب الديني بشكل تقليدي أمام هذه المنافسة الشرسة؟

كثير من أولياء الأمور يأتون إلينا في معارض الكتب، يشكون أن أبناءهم لا يقرأون الكتب الدينية مهما حاولوا إقناعهم، بعضهم يشتري الكتب لهم بدافع الواجب الديني أو الاجتماعي، لكنه يكتشف لاحقًا أنه بقي في رفوف البيت بلا لمس! وحين أسأل الأطفال بشكل مباشر: ليش ما تقرأ هالكتاب؟ يكون الرد صريحًا: ممل، أو ما فيه صور، أو ما فهمت القصة“!

هذه إجابات موجعة لكنها صادقة، وتكشف لنا أن مشكلتنا ليست في القيمة الدينية ذاتها، بل في طريقة تقديمها، وفي قدرتنا على مخاطبة عوالم الطفل الحقيقية.

المشكلة في الطريقة، لا في المضمون

المحتوى الديني غني وملهم – لا خلاف على ذلك – لكنه يُقدّم في أغلب الأحيان بطريقة جافة أو تلقينية، الطفل بطبعه يميل للقصة، للمغامرة، للدهشة… بينما معظم الكتب الدينية مصاغة كأنها خطاب للكبار أو محاضرة في قاعة دراسية.

من تجربتي في النشر، لاحظت أن الكتب التي اعتمدت على القصة المصورة، أو التي دمجت الأنشطة التفاعلية مع النص الديني، حققت نجاحًا أكبر من تلك التي اكتفت بالسرد التقليدي، الطفل بحاجة لأن يشعر أنه جزء من الحدث، لا مجرد متلقٍ للحكم أو القواعد.

فجوة اللغة والسياق: كيف يمكن تجسيرها؟

هنا تكمن المعضلة: كيف نبسّط لغة النص الديني ونقربه من بيئة الطفل دون أن نخل بجوهر الرسالة؟

أعتقد أن الحل يبدأ بإعادة النظر في لغة الكتاب نفسه، لماذا لا نحول حديثًا نبويًا أو قصة دينية إلى مشهد حياتي بسيط يعيشه الطفل في بيئته اليومية؟ لماذا لا نستخدم لغة الحوار، والمواقف التي تشبه تفاصيل حياته؟ من تجربتي، كلما كان النص أقرب إلى الواقع اليومي للطفل – حتى لو كان خياليًا – كلما كان أكثر رسوخًا في ذهنه، وأكثر قابلية للتأمل والتطبيق.

هل يستطيع الكتاب الديني أن يواكب العصر الرقمي؟

هذه ليست رفاهية، بل ضرورة! الطفل اليوم يتوقع من الكتاب تفاعلًا وصورة جميلة وقصة قصيرة مشوّقة، صار من المهم أن نفكر في كتب دينية إلكترونية، قصص صوتية، أو حتى أنشطة تكميلية على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس الهدف منافسة تيك توك أو يوتيوب، بل استخدام نفس الأدوات لجذب انتباه الطفل وترسيخ القيم الدينية بطريقة تناسب زمنه.

توصيات عملية للكتّاب والناشرين:

  • ابدأوا من دراسة الطفل نفسه: ماذا يحب، ما الذي يشد انتباهه، ما الذي يضحكه ويؤثر فيه؟
  • جربوا أنماطًا جديدة في التقديم: قصة مصورة، نشاط عملي، كتاب تفاعلي، أو حتى مسرحية صغيرة.
  • تعاونوا مع رسامين شباب يفهمون لغة العصر، وكونوا مستعدين للتجريب وتقبّل النقد من الأطفال أنفسهم.
  • دعوا أولياء الأمور يشاركون أطفالهم في قراءة الكتاب ومناقشة قصصه، بدل أن يكون الكتاب مجرد مهمة على الطفل إنهاؤها.

ليست المشكلة في القيم الدينية ولا في حاجة الطفل إليها، بل في الطريقة التي نخاطبه بها وفي قدرتنا على التجديد، إذا أردنا أن نصنع جسرًا بين عالم الطفل والكتاب الديني، يجب أن نخرج من القوالب القديمة، ونخاطب الأطفال بلغتهم، ونخوض معهم مغامرة معرفية وإنسانية حقيقية، تحترم عقولهم وتلبي شغفهم في الوقت نفسه.

Loading

اقرأ أيضاً...